موضوع: صَاحِبَة الفُستَانِ الَأزرَقْ الإثنين نوفمبر 09, 2009 2:44 pm
الحب كالماء ، ضروريٌ للحياة ، وقاضٍ عليها ، إذْ للحب فلسفة البحار مع الصغار ، بحرٌ نأتيه عرايا ويقتلنا، تلك كانت المرايا التي يبصر بانعكاسها احتضاره. تلك كانت اختياره وما تزال ، ولو عاد به الزمن للوراء لكرر الاصطفاء ! سليمٌ فقط اسمه وقد كان ، حتى نادته به ، فابتدأت نهايته.......!
ألبسته قسراً نظارة الحب , طيلة غيابها فرأى الأغصان عشاقاً تمارس الحب ، والأنامل أرواحًا مجندة ملء عروقها حب ، حتى الروائح المختلطة والأصوات المزدوجة والجريمة المكتملة أرواحُ عشاقٍ ماتوا منذ زمن بعيد بعصورٍ كانت تجرّم الحب.
كان يراها البداية والنهاية لكل شيء حوله، بدءً باستسلام أول رشفةٍ من كوب قهوة ما، وانتهاءً بصمود آخر القطيرات فيه، قصته لم تتعدَ اثني عشرَ يوماً ، كانت دقائقها أعواماً بالنسبة إليه ، نادلٌ في مقهى ، تلك كانت مهنته ، لم يتمكن من استكمال المرحلة الجامعية لفقره واحتياج أهله ، لكنه رغم ذلك مولعٌ بالروايات ، إذ كان يقتطع جزءً ليس يسيراً من مرتبه لأجلها ،فبالرغم من عوزه إلا أنه بوريقات الروايات أغنى أهلِ الأرض ، أو ذاك لسان حاله ، فمن رآه بمقهاه ، وجده يستلب الدقائق سلباً رغم ضغوط العمل ليقرأ صفحةً أو صفحتين ، كان طويل القامة مليح الوجه هادئ القسمات ، شديد الاهتمام بأناقته كأنه على موعد حب ، وقد كان !
رمقت اسمه من على بطاقة صدره دون أن يشعر فقد كان مطأطئاً صوب روايته، لم تشأ إفزاعه أو مقاطعته واكتفت بتأمله باسمة ، وبعد أن مرّت دقيقة كاملة على وقوفها الذي لم يعبأ به اندماجه ، طرقت طاولة -الكاشير- بأسلوبٍ نغمي محاولةًَ لفت نظره ، لكنه لصخب روايته لم يسمع طرقاتها ، حتى نادته به:
-سليم . فرفع رأسه نحوها وقام ، ولهول المفاجئة سقطت الرواية على الأرض ، وبتزامنٍ عجيب خر لجمالها قلبه صعقا.. -نعم ، مريني بما أردتِ ، المعذرة كنت آآ.. -لا مشكلة ، أريد قهوة فرنسية ، وقارورة ماء. -نعم..!؟ -قــهــوة فــرنـســــية ، وقارورة مــــــــاااء (قالتها بابتسامٍ متململ) -لا بأس ، تفضلي على الطاولة وسآتيكِ بما تريدين ، و..
لم يكن لواو العطف داعٍ هنا ،مضت قبل أن تسمع "واوه" ، ماذا لو أنها سمعتها ، هل تراها ستستحثني للكلام أكثر ، هذا ما جال بخاطره وهو يتابعها بعينيه.
بدأ بتحضير قهوتها ، وكان بين لحظة وأخرى يحاول استراق النظر إليها..أمتلأ كوبها بالماء الساخن وأخذ يفيض على يديه فاحترق ! وسقط كوبها على الأرض محدثاً جلجلة قوية تلاها تكسره لأجزاء..ترى هل كان وقعها على قلبه ، كوقع سقطة الكوب تلك..وحده من يعرف الإجابة.
التفت الحضور بانزعاج صوب الصوت ، لم يكترث بأحدهم ، بل التفت إليها مباشرة واعتذر بصوتٍ عال..قائلاً:
-أنا آسف..
نظرت إليه فقط ودون أن تبدي أي ردة فعل عادت تعبث بهاتفها من جديد. لماذا اعتذر ..؟ والكوب سيستبدل بكوب ؟ والقهوة لم تندلق على ثيابها..! لكنها فوضى المشاعر التي غزته محدثةً ارتباك طفلٍ بلل مرقده !
أعد القهوة من جديد بعد أن جمع شظايا الكوب الأول، لكنه اكتفى ، باستراق نظرةٍ لا شريك لها ، جاءها بالقهوة ، وفي الطريق أخذ ينظر إليها مبتسماً بخجل وكان يزوِّر حديثاً بنفسه يبرر به ما حصل، لكنه وحين لم يجد من ملامحها اكتراثاً ، فضل الاكتفاء بـ:
انصرف عنها ، وكم تمنى لو جالسها لثوانْ .. لثوانٍ فقط ! عاد أدراجه من جديد ، تمنى لو أنها نادته ، لكنه لغبائه أتقن القهوة ! هكذا قال في نفسه بعد أن عاد لهمه..
أكلها بعينيه ، بعد أن اصطفى زاويةً صعبٌ أن تلحظ وجوده بها، شعرها أسود تغزوه حمرة طفيفة منهطلٌ كشلالٍ دون هدير،سمراء لكنها للبياض أقرب وجهها نحيل وعلى خدها الأيسر شامةٌ سوداء صغيرة عيناها متسعتان بشكلٍ يوحي بأنها دائمةُ الفزع ، لم تتجاوز العشرين ، فمها دقيق ، أذناها متطابقتان ، بطيئة الحركة، وجميلة جداً ..جداً جميلة، هكذا حدث نفسه ، بعد أن صورها بعينيه وأودعها أرشيف الذاكرة.
هنا التفتت صوبه مباشرة ! وكأنها كانت على علمٍ به، فارتعد كما لو أن صديقاً أفزعه ، فتصرف بعفويةٍ مضحكة فقد بادرها بابتسامٍ لم تبادله بمثله ، وطأطأ برأسه وعاد كمهزوم إلى كرسيه يجر أذيال الفضيحة ! بأي وجه سيواجهها ؟
للمرة الأولى ، تمنى أن يهرب الزبون دون أن يدفع، وللمرة الأولى كذلك، تمنى لو أنها من أولئك الذين يتصنعون نسيانهم المحفظة ليجبروك على إدانتهم ، فقد يكون بمعروفه ذاك جزاها واحدةً بواحدةْ، هل أخبرها بأني قمت بدفع الحساب عنها !؟ هكذا قال بنفسه.مسكين هو فقد كان يريد أي شيء يكفر من خلاله فعلته..
لم تنادي عليه بل خرجت مباشرة وكأنه مقهى أبيها ، أي نعم قد أسعده انصرافها هكذا لكن كبرياءه رفض أن يُعَاقَبَ بهذه الصورة ، ذهب لطاولتها ليحضر الكوب المحظوظ والقارورة السعيدة والتي قد ذهب نصفها ، والغريب بأنه فوجئ بوجود ورقة نقدية كبيرة أسفل الكوب ، هي أكبر بكثير من المبلغ الذي كان من المفترض أن تقوم بدفعه !
توقف لبرهة والتفت ناحية الباب وافترسته الأسئلة ، ترى ماذا تعني بما فعلت ؟! وهل هي ثرية للحد الذي يجعلها تكرمني بهذا البذخ ، وهل كنت بما قد قمت به أستحق الإكرام ، نظر إلى الورقة النقدية ولم يشأ الدفع بها لآلة النقود بل فضل الاحتفاظ بتذكار منها فدفع الفاتورة بماله ،والآن فقط تلقف روايته الكسيرة من الأرض ، وشرع باستكمال القراءة لكن فكره لم يكن معه ، ففضل إغلاقها وزرعها في الدرج.
مرت ليال عشر لم يغادر مقهاه إلا للنوم ، حتى غداؤه كان أخوه يأتيه به،وقد تذرع لأسرته بأنه يعمل ساعاتٍ إضافيةً ليزيد من دخله ، قبلاً كان يعد الدقائق ليغادر مقهاه أما الآن فصار جنته ، الطريف في الأمر بأنه -وبعد انتهاء فترة عمله- كان يجلس بنفس الطاولة التي كانت تجلس عليها بل وعلى الكرسي نفسه، يشعر بانتشاء عجيب بما يقوم به لا يعرف تفسيراً له ، كانت أيامه سنوات وعيناه تجولان بين الباب والكتاب ، كان ينتظر مجيئها كانتظار أم لأسير ، كان قد زاد من تأنقه أكثر وخطط لما سوف يقوله أكثر وأكثر ، حتى المغامرات البوليسية التي قرأها خطط بأن يكون بطلها بأكاذيبَ سيرويها لها ، لكنها لم تعد..وكأنها أقسمت أن تسلقه بوعاء اللهفة، تقازم صبره لتطاول انتظاره ، كان كل عزائه أنه أتقن القهوة !!
في اليوم الذي يليه استأذن من إدارة المقهى متذرعاً بظروفٍ أسرية ، ليبحث عنها بالمقاهي المجاورة ، فقد تكون بأحدها ، فتشها واحداً واحداً فلم يجدها، مسكين إذ كيف له أن يستدل على من لا يعرف إلا لون فستانها، ذهب للمطاعم التي تقع بنفس شارع مقهاه بل والشارع الذي يلي مقهاه ، فتش من فيها وجهاً وجهاً فلم يعثر على وجهته.
ومن غده عاد مستسلماً لمقهاه وكعادته جاء مرتدياً بدلةً رسمية فمن رآه ظنه مدير شركة أو وزيراً أو على أقل تقدير صاحب ذلك المقهى، جالسٌ كالعادة بمقعد صاحبة الفستان الأزرق ، ممسكاً بروايةٍ رومانسيةٍ قرأها منذ مدة ، مسكين هو..فحتى يوم إجازته قضاه بمقهاه !والأفكار تتوالى عليه كأنها شريط ما قبل الموت !
ترى هل تصرفي آذاها إلى هذا الحد ؟ أم قهوتي ، أم أنها من بلدة أخرى وجاءت مصادفة !؟ أم أنها مرضت ؟ أم ماتت !!! ، ثم قام بطرد الأخيرة عن باله لعدم تمكنه من تخيلها ميتة ، وها قد قاربت الساعة الثانية عشرة صباحاً مؤذنةً بالموعدِ اليومي لإغلاق المقهى بتاريخ الثاني عشر من غيابها !
وفجأة فتح الباب ..!
فالتفت صوبه فكانت هي ! نعم هي ! فقام من مكانه ينظر إليها لكنها تجاهلته ومضت لزميله لتطلب ، لكن الآخر اعتذر بلطف بأنهم على وشك الإغلاق فأسرع الخطى نحوهما وقاطعه قائلاً:
سليم: لا مشكلة يا مازن امضِ أنتَ الآن، وأنا من سيقوم بخدمة الآنسة. (قالها بعصبية ممزوجة بحزم) مازن: يا سليم ممنوع أن نبقي المقهى مفتوحاً بعد الثانية عشرة. سليم: لا بأس أنا من سيتكفل بإغلاق المقهى بعد انصراف الزبونة مباشرة. إذهب أنت ولا عليك. هنا قاطعته صاحبة الفستان الأزرق مستغربة: عذراً من حضرتك ؟
لكنه قبل أن يجيبها ، بدا على وجهها أن الذاكرة أجابتها ، فتبسم متفهماً ووجّهها للتفضل على ذات الطاولة ، وقد تزامن ذلك مع انصراف مازن غير عابئ بهما كان شكله وهو يحضر القهوة باتقان مثيرٌ للضحك خصوصاً وهو يرتدي بدلته الرسمية فكان كرئيس دولةٍ ونادلٍ للقهوة في آنٍ معاً!
هذا ما كان يجول بخاطرها وهي تلاحقه بعينيها وكان يصاحب ذلك الشعور عرفانها الذي غفر له ما تقدم من ذنبه ، أحضر القهوة وبجرأة غير مسبوقة استأذنها بالقعود وقبل أن يسمع جوابها وخوفاً من ردٍ محبط ، أذن لنفسه بأن يسحب الكرسي المواجه لها ليجلس عليه.
عرفاناً له لم تعترض على ما قام به ، بل جاملته وحيّته، ودون مقدمات بدأ يحادثها عن نفسه وعن هواياته وعن مواقفه بالمقهى وعن كفاحه بأسلوب تلميذٍ يفاخر زملاءه بغية إبهارهم! بدايةً-اكتفت بالإيماء وبالردود الموجزة لكنها بعد ذلك استأنست به واطمأنت بل ولم ترَ حرجاً من معاتبته بلطف على الفعلة التي قد قام بها بالمرة الماضية ، وبدهاءٍ استغل الفرصة ليبرر ما قام به بافتتانه بجمالها الذي سلب لبه وكيانه ، سليم لم يكن ينتظر فرصة التغزل بها حتى بحلمه كيف وقد جاءته على طبقٍ من عتب ! أخذ يستطرد في غزله فاستوقفته استحياءً ، فتوقف واعتذر ، ودون مناسبة سألته عن الساعة ، فأجاب مكرهاً بأنها تشير للواحدة والربع ، فصاحت متعجبة لسرعة مرور الوقت ولم تستأذنه بالانصراف بل قامت مباشرة واعدةً إياه على عجل بأنها ستأتي عمّا قريب.
بدوره هم بالقيام ليطفئ أضواء المقهى وآلاته ويوصد الأبواب ، وكان يحدث نفسه : ملك أنت يا سليم ، على رأسك تاجٌ من ورق ،أضأت بنفسها بعد إشراقها بنفسك ، غيابها لاثنتي عشر سنة والحضور فجأة، كان كإيماضة برق في ليلة صيفية لا تحلم بالمطر ، مسكينة لم تكن تشعر بمرور وقتها معي حتى أنها نسيت أمر الفاتورة، بالتأكيد أني امتلكت قلبها وكيانها ، كما كانت لي ، وبالتأكيد ستعود كل يوم لتراني، لكنني سأتمنع عن الوصال لتزداد بي حباً وشغفاً .
في هذه الأثناء أقفل آخر أبواب المقهى ، وكأنه بذلك يوصد آخر فصول رواية هو البطل فيها والقارئ معاً ، وشرع في التوجه لمنزله لكنه فوجئ بمن يركض خلفه !
فالتفت، ليجدها خلفه وفي يمينها ظرفٌ قدمته إليه وقالت: